الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله النبي العربي القرشي، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وكشف الله به عنا الغمة، وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فقد قال الله تعالى: [إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {التوبة:40}.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله جهرًا ويمرّ بين العرب المشركين حين كانوا يجتمعون من نواحي شتى في الموسم ويقول: ”يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا“ ويبين لهم أنه رسول الله، ودعا إلى العدل والإحسان ومكارم الأخلاق، ونهى عن المنكر والبغي.
فآمن به بعض الناس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وغيرهم، ولما اشتد عليهم الأذى هاجر بعض أصحاب النبي إلى الحبشة الهجرة الأولى لدعوة الناس للإسلام وكانوا نحو ثمانين منهم عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم. ولما كثر أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيثرب أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين بالهجرة إليها بعد بعثته صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة، فصار المسلمون يهاجرون أفواجًا أفواجًا، فلما رأى المشركون ذلك خشوا خروجه عليه الصلاة والسلام، فكمنوا له ليقتلوه، فتجهز لذلك من كل قبيلة رجل جلد نسيب ليضربوه ضربة رجل واحد، فلا يستطيع قومه أن ينتقموا له، ولكن الله أعلم نبيه بكيد المشركين وما يسعون إليه، فجاء له سيدنا جبريل عليه السلام، وأمره أن لا يبيت في فراشه الذي ينام فيه وأخبره بأن الله تعالى أذن له بالهجرة فأمر عليه الصلاة والسلام سيدنا علي بن أبي طالب أن يبيت مكانه وأمره أن يؤدي الأمانات إلى أهلها. ولما كانت ليلة الهجرة، كان الكفار يقفون بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذ به يخرج عليهم آخذا حفنة من التراب فرماها على رءوسهم، وهو يقرأ الآيات: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنـزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (يـس) .
فأصابت كل واحد منهم بقدرة الله تعالى، وأعمى الله أبصارهم فلم يروه. واستبشر المسلمون بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل إلى يثرب التي سماها النبي المدينة المنورة وءاخى بين أهلها والمهاجرين وسمى أهلها الأنصار لأنهم نصروا دين الله تعالى، ثم بنى مسجده الشريف ومساكنه فيها، وبه انطفأت فتنة عظيمة كانت بين قبيلتي الأوس والخزرج بيثرب بعد أن دامت سنوات فصار المسلمون على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع ولا دنيا ولا يباعدهم حسد ولا ضغينة حتى غدوا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم أزر بعض، وقد نصر الله نبيه وأيده وكان وعد الله حقا، فهو القائل عز وجل: [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] {غافر:51}
إخوة الإيمان
لم تكن هجرة النبي طلبًا للراحة ولا هربًا من المشركين ولا تخليًا عن الدعوة إلى الله ولكن تنفيذًا لأمر الله تعالى، فهو عليه الصلاة والسلام القائل: ”ما لي وللدنيا وما للدنيا ولي، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها“، وهو القائل لعمه أبي طالب: ”والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله سبحانه وتعالى أو أهلك دونه“.
إن الهجرة النبوية دروس وعبر نتعلم منها أن الالتزام بعقيدة التنـزيه والتوحيد هو أول مراتب التعاضد واللحمة بين المسلمين فقد دعى عليه الصلاة والسلام إلى التوحيد وهو بمكة فكان من ثمراته أن انتشر الإسلام في المدينة المنورة قبل هجرته إليها، مما يؤكد علينا أهمية العمل بقوله تعالى: [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] {الأعراف:199} وقوله تعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110} .
كل عام وأنتم بخير. والله تعالى أعلم وأحكم