جاءت رسالة الإسلام حاملة معها الكثير من الصفات الجميلة والتي تفيد الإنسان في شتى الأمور ومنها الرحمة، فقد وصف الله القرآن الذي أنزله بالرحمة فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. وابتدأ أول سورة في القرآن الكريم بقوله: {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم}
وقال: {ورحمتي وسعت كل شيء} أما نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال عنه {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} سورة الأنبياء آية 107. فهو نبي الرحمة ومثال الإنسان الصالح فقد كان يصل الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويَقري الضيف، ويُكسِب المعدوم، ويُعين على نوائب الحق. ويقول: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم أهل السماء. أي الملائكة. فالرحمة من أجمل الصفات التي يتمتع بها المسلم ، فيكون واسع الصدر ويرفق بالناس ويحسن التعامل مع الجميع.
من أبرز مظاهر هذه الرحمة:
إرسال الأنبياء والرسل
وصف الله تعالى إرسال الرسل والأنبياء بأنه رحمة من عنده، لما في ذلك من مراعاة لمصالح عباده، ورأفة بهم من أن يتمادوا في سبل الضلال، التي تفسد عليهم دنياهم بالجور والظلم واقتراف الفواحش، وتضيع عليهم آخرتهم، فيكون مصيرهم إلى النار، فأرسل أنبياءه ورسله مبشرين ومنذرين، ليخرجوا الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ويطهّروا أخلاقهم من الرجس والفجور، ويصلحوا أمور دنياهم بالشريعة العادلة، التي تضمن الحقوق، وتقيم العدل قال تعالى: أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ سورة الدخان 6. على أنه من لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون مكلفًا فلا تكون عليه مسؤولية في الآخرة، قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. سورة الإسراء آية 15
وقد وصف الله عز وجل إرسال عيسى عليه السلام لبني إسرائيل رحمة بهم وبالناس، قال تعالى: وَلِنَجْعَلَهُۥٓ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا سورة مريم 21. ووصف الله عز وجل بعثة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بأنها رحمة محضة، تكرَّم بها على العالمين لما في رسالته من الهداية والنور، ولما تضمنته من الأحكام والشرائع التي تصلح للعباد في كل زمان ومكان، وتستوعب حاجات البشرية المادية والروحية والاجتماعية إلى أن تقوم الساعة قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين سورة الأنبياء 110
إنزال الكتب
كما أن الله رحم العباد بإرسال الرسل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور رحم الله العباد بإنزال الكتب، التي تتضمن قواعد تطهير النفس، وتهذيب الضمير، وتزكية الأخلاق، وتحوي الشرائع الربانية، التي تنظم العلاقات، وتضع الأحكام، وتحمي حقوق العباد، وتمنع عنهم البغي والعدوان قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} سورة الحديد 9.
وقد ذكر الله من بين الكتب التي أنزلها صحف إبراهيم وزبور داود وإنجيل عيسى ، لكنه خص التوراة والقرآن الكريم بالذكر والتنويه، وربطهما برحمته في كثير من الآيات قال تعالى عن التوراة: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} سورة الأنعام 154 وقال أيضا: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً} سورة الأحقاف 12.
أما القرآن الكريم فقد قرنه الله بالرحمة في مواضع كثيرة، مَنَّ فيها على عباده بهذه النعمة العظيمة، وبيَّن ما حملته من آثار رحمته الواسعة للعباد في معاشهم ومعادهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف 52. وقال عز وجل في سورة العنكبوت مذكّرًا بنعمة إنزال القرآن، التي تستحق الحمد والشكر، لما تحمله في طياتها من الرحمة: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة العنكبوت 51.
إنزال المطر
مما لا شك فيه أن إنزال الغيث من أكبر وأجلِّ نعم الله على عباده، ففي مائه حياة أبدانهم وطهارة أجسامهم، ونمو زروعهم، وقوام أنعامهم، لذلك عدَّه القرآن الكريم من أعظم آيات الله في الكون، وامتنَّ على العباد بإنزاله، مما يدل على عظيم نفعه لهم، وكبير احتياجهم إليه، ووصفه في كتابه الكريم بأنه رحمة منه: فإن الغيث سبب رزق عظيم، والله يُنزِله بقَدر هو أعلم به، وفيه تذكير بهذه النعمة العظيمة على الناس، التي منها معظم رزقهم الحقيقي لهم ولأنعامهم وهي نعمة لا يختلف الناس فيها، لأنها أصل دوام الحياة بإيجاد الغذاء الصالح للناس والدواب قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة الروم 46. قال الفخر الرازي: وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ بالمطر وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ سورة الشورى 28.
تسخير الكائنات للخلق
من أظهر رحمة الله لعباده تسخير الكائنات للخلق مثل تعاقب الليل والنهار، وتوالي الفصول، وفي البحر، وفيما في البحر من السمك والحليّ، وفي البر وفي الصحراء، وفي الجبال، وفي الوديان، وفي الأغوار، وفي السهول وفي الأنهار، وفي البحيرات وفي الأطيار وفي الأسماك، وفي الأزهار وفي النباتات، وفي المحاصيل، وفي الأشجار المثمرة، وفي الأنعام، وفي ثروات الأرض الباطنة، وفي خلق الإنسان، فكل هذا من مظاهر رحمة الله عز وجل وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ سورة القصص 73.
وقال عز وجل عن تسخيره للبحر بكل ضخامته، وتسهيل سير الفلك فيه، بما يضمن للبشر وسيلة مواصلات فعالة، تنشط بها تجارتهم، وتسهل بها طرق انتقالهم من مكان إلى آخر، وعدَّ ذلك من رحمته، التي تشملهم في جميع تقلباتهم: رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا سورة الإسراء 66.
إن المتأمل في نعمة تسخير الكائنات يدرك سعة رحمة الله بعباده ورأفته بهم، وكيف بالإنسان لو كان لا يستطيع استعمال شيء منها، تُرَى كيف يُصبح الحال لو أن الأرض قُدِّر لها ألا تكون مهادًا، وأن تكون صخورًا أو قطعًا من الجزر المنتثرة؟! أو إذا أمطرت السماء حينًا، وأرسلت الشهب حينًا وأنزلت الصواعق حينًا؟! وكيف يُصبح الحال لو تمرَّدَت الخيل والبغال والحمير، والسفن والقطارات والطائرات، فلم تسمح للإنسان باستعمالها؟
رفع البلاء عن الخلق
ومن رحمة الله تعالى رفع البلاء، وتفريج الكربات، وتيسير كل معسر، ورعاية العباد بالتخفيف من آلامهم وإدراكهم برحمته حين تضيق بهم المذاهب وتُسَدُّ في وجوههم الأبواب قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام كيف رفع عنه البلاء حينما بالغ قومه في تكذيبه، {ولجّوا في طغيانهم وجحودهم، وحاربوا دعوته وآذوا أصحابه فنزل بهم العذاب فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} الآية سورة الأعراف 72.
وتكررت الآيات التي تتحدث عن رحمة الله بأنبيائه ورعايته لهم، بتيسير سبل النجاة لهم من العذاب الذي أصاب أقوامهم برحمة من الله، كما في قوله عز وجل عن هود عليه السلام: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ سورة هود 58 وقوله عز وجل عن صالح عليه السلام: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} سورة هود 66. وقال تعالى عن أيوب عليه السلام الذي أدركته رحمة الله، فأذهبت عنه البلاء {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ} سورة الأنبياء 83-84.
وعبر القرآن الكريم عن رفع البلاء بالرحمة في عدد من الآيات القرآنية، منها قوله تعالى عن الكفار والمشركين، الذين يبتليهم بأنواع البلاء: كالقحط والجوع، ليعودوا إلى ربهم تائبين منيبين، ثم يعقب ذلك البلاء برفعه رحمة بهم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} سورة المؤمنون 75.
رفع الحرج عن الناس
إن من آثار رحمة الله بالعباد ما شرعه الله لهم من الأحكام التي تنظم أمور معاشهم، وتحفظ عليهم حقوقهم، والعبادات التي تزكّي نفوسهم، وتطهّر أرواحهم، وتهذّب أخلاقهم، وما أعقبه من رخص تعفيهم من الالتزام بها إذا اضطروا إلى ذلك وتبعدهم عن الضيق، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة البقرة 173 وقال القرطبي: “فإن الله غفور رحيم، أي: يغفر المعاصي، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه، وقد تكررت مثل هذه الرخص في عدد من الآيات واقترنت كلها برحمة الله وغفرانه تخفيفًا على العباد من أن يهلكوا لضعفهم أمام الشدائد قال تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا} سورة النساء 28 لأن الإسلام دين سماحة ويسر لا مشقة فيه ولم يجعل الله عليكم في الدين من حرج فرخص لنا في استعمال التراب بدلًا من الماء عند فقده أو تعذر استعماله في الغسل الواجب والوضوء ووضع عنا شطر الصلاة في السفر ورخص لنا الفطر فيه وأذن لنا في المسح على الجبائر والخفين.
قبول التوبة
من أعظم رحمة الله بالعباد إمهاله لهم وعدم تعجيل العقوبة لهم إن هم أخطأوا أو أذنبوا أو اقترفوا المعاصي، وجرفتهم الأهواء إلى تيار الفواحش والمحرمات، مما يفتح لهم بابًا للتوبة فيتوب الله عليهم ويغفر لهم زلاتهم قال الله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ سورة التوبة 104 فهو الذي يقبل التوبة بعد التوبة ويثيبهم ويرحمهم رحمة بعد رحمة.
ومع سعة رحمة الله لا ينبغي للعبد اليأس من رحمة الله مهما بلغت ذنوبه بل نهى الله عن القنوط من رحمته قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ سورة الزمر 53
الرزق
الله الذي يوصل كل ما ينفع لعباده ويرزق من يشاء بغير حساب فتغدو الطيور خماصًا وتعود بطانًا من رزق الله وعنده خزائن الرحمة قال تعالى: قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا سورة الإسراء 100 فله الحمد والشكر على نعمه التي لا تعد ولا تحصى قال تعالى: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ سورة النحل 18
رحمة الأنبياء
إبراهيم عليه السلام كان أمة قانتًا لله حنيفًا كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} النحل 120 وكان صِدِّيقًا نبيًّا {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} سورة مريم 41. وقد تمثلت الرحمة في شخصه ودعوته كما حكى القرآن عن رحمته مع أبيه، وكيف كانت دعوته إياه بالتلطف والتودد {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} سورة القصص 56.
إن رحمة إبراهيم بأبيه رحمة جمعت رحمة الطامع في الإجابة، ورحمة المشفق عليه من العذاب، قال تعالى إخبارًا عن إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} سورة مريم 45.
وهذه الرحمة لم تنقطع حتى بعد عدم قبول الدين والتوعد بالرجم، قال تعالى إخبارًا عن والد إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} سورة مريم 45. بل تجسدت في صورة أخرى من صور الرحمة، ألا وهي الدعاء له بالمغفرة بالدخول في الإسلام، فتولى إبراهيم وألقى على أبيه السلام عنوان التراحم والسلامة قال سلام عليك سورة مريم 47. ثم قال: { ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} سورة مريم 47.
نوح عليه السلام المطالع في دعوة نوح عليه السلام لقومه يرى فيها الصبر والرحمة تتجلى في أبهى صورة، فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم لتوحيد الله، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} العنكبوت- 14 فما استجابوا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ.
وفي دعوته عليه السلام تطالعك رحمة الوالد بولده، أخذته شفقة الأب بابنه ورحمته إياه، وطمع في مغفرة أرحم الراحمين، {وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} سورة نوح 42
وهذه الرحمة التي قذفها الله في قلوب عباده، لا تحيد ولا تميل بالنبي الكريم عن قول الحق، وبيان طريق الهدى والرشاد، فبين لابنه طريق العصمة من عذاب الله {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلا من رحم} سورة هود 43 في الرد على ابنه عندما بحث عن {طريق النجاة وأضله هواه وما هداه سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} سورة هود 43. إنها رحمة فطرية، لا تثريب عليه فيها، ولكن لا ينفع العبد عند ربه لا نسب ولا قرابة بدون الإيمان والعمل الصالح.
محمد عليه الصلاة والسلام لقد امتن الله على هذه الأمة ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام الرؤوف الرحيم، فالرحمة جانب عظيم من جوانب شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فالبر إمامه والرحمة محيطة به سواء كان في يسره أو عسره أو كان مع موافقيه أو مخالفيه قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} سورة التوبة 128.
وهذه الرحمة شملت المؤمنين كلهم القريب منهم والبعيد، الحاضر منهم والغائب، قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة التوبة 61.
بل كان مبعثه عليه السلام رحمة للعالمين قال تعالى مادحًا محمدًا عليه الصلاة والسلام بالرحمة العامة لكل الخلق: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} سورة الأنبياء 107 فالله أرسل نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله وفي هذا إمهال له للتوبة والإنابة ومن تاب تاب الله عليه قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} سورة الفرقان 70.
وحسبك أنه نبي الرحمة، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء، فقال: أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة.
وصور الرحمة في دعوته عليه الصلاة والسلام كثيرة ومجالاتها متعددة منها عظمة خلقه قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} سورة القلم 4 وهي رحمة للمؤمنين وبالمؤمنين، لامست قلوب أصحابه، فاستضاءت برحمة من الله وفضل، وحصل بها التراحم بينهم، قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} سورة الفتح 29
ومن صور رحمته بأمته أن نصح لهم، وبين لهم شرائع دينهم، وتركهم على المحجة البيضاء: ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ومن صور رحمته عليه الصلاة والسلام بأمته أجمعين أنه اختبأ دعوته المستجابة وادخرها لتكون شفاعة لهم يوم القيامة وقد قال عليه الصلاة والسلام: “لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة” رواه البخاري.
رحمة الرسول بأصحابه
يحدثنا عن هذه الرحمة مالك بن الحويرث إذ قال “أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أننا اشتقنا أهلنا وسألنا عمن تركنا وراءنا من أهلنا فأخبرناه وكان رقيقًا رحيمًا فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي.” رواه البخاري.
ويقول عثمان بن عفان رضي الله عنه إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر وكان يعود مرضانا ويتبع جنائزنا ويغزو معنا ويواسينا بالقليل والكثير.
الرحمة بالمذنبين والمخالفين
وهذه الرحمة كانت حاضرة في تعامله في جميع شؤونه، فها هو النبي يضرب لنا أعظم الأمثلة في تربيته لأصحابه بالرفق واللين، فهذا معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه يتكلم في الصلاة، فلم يُعنفه أو يُوبخه بل قال له بكل رفق: «إنَّ هذه الصلاةَ لا يَصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ الناسِ، إنما هو التسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآنِ»، يقول معاوية: “فبِأبي هو وأمِّي! ما رأيتُ مُعَلِّمًا قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تَعليمًا منه، فواللهِ! ما قهَرَني ولا ضرَبَني ولا شتَمَني.
والرحمة بالمخطئ والمذنب والمجانب للصواب تستلين قلبه، وتكبح جماح نفسه، وتطفئ نار الشهوة والشبهة في قلبه، فالله يدعو عباده المذنبين، بل المسرفين على أنفسهم بخطاب العبودية، ويفتح لهم باب الرحمة، ويذكرهم بأنه هو الغفور الرحيم، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: “كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له أطع أبا القاسم فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار.” وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة.”
وعندما رآى قريشًا وهم يتوقعون الإجهاز عليهم عندما فتح مكة ورآى عيون الصحابة وهم ينتظرون أدنى إشارة منه قال النبي عليه الصلاة والسلام مخاطبًا قريشًا: ما تظنون أني فاعل بكم قالوا أخ كريم وابن أخ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء.
رحمة الإسلام اجتماعيًّا
خلق الإنسان اجتماعيَّا بطبعه، يألف الجماعة ويكره الانفراد، وخلق الرحمة داعٍ للتآلف والاجتماع، نابذ للتنافر والفرقة، ولا يمكن لمجتمع لا تسوده الرحمة أن يرتقي بأفراده، وأن يكون خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى عن أمة الرحمة أمة محمد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} سورة آل عمران آية 110
وهذه الخيرية لهذا المجتمع حصلت بالإيمان بالله الرحمن الرحيم، وبالأمر بالمعروف الجامع لكل خير ورحمة، وبالنهي عن المنكر الجالب لكل بلية ونقمة، وهذا الطريق طريق الرحمة لا يزال بالمؤمن حتى يكون ممن ابيضت وجوههم، وفازوا برحمة الله في الآخرة، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} آل عمران 107
الرحمة الأسرية
العلاقة بين الزوجين علاقة مودة ورحمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم 21 فالرحمة في العلاقة الزوجية رحمة مقصودة لتستقر الحياة الزوجية وتستمر ويسعد بها أفرادها.
والأبناء والذرية من أسباب الرحمة، وبعضهم أقرب للرحمة والتزكية من بعض، قال تعالى: {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} الكهف 81. لذا كان السعي في طلب الولد والسعي في صلاحه مطلب الصالحين، قال تعالى {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان 74.
رحمة الأبناء بالوالدين
أمر الله بالإحسان للوالدين، وقرنه بالأمر بطاعته وبالدعاء لهما بالرحمة، قال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} سورة الإسراء 23.
ومن حق الوالدين على أبنائهم رحمتهم، رحمة يردّون بها معروف التربية ويؤجرون عليها، رحمة تقتضي خفض الجناح، يقول الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} سورة الإسراء آية 24.
روى أبو داود أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: “إني جئت أبايعك على الهجرة ولقد تركت أبوي يبكيان” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ارجع إليهما فأَضْحِكْهُمَا كما أَبْكَيتَهُمَا.”
الرحمة بالأقارب والأرحام
الأرحام من الرحم، والرحمة موصولة بمن وصل حقهم، وراعى قرابته، ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن قطع الرحم وقرنها بالفساد في الأرض قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} سورة محمد 22 وأوصى الإسلام بحفظ حقهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء 1
الرحمة بالأطفال واليتامى
إن من يتأمل الآيات الكريمة الواردة في شأن الطفولة، يجد أنها أخذت من الاهتمام والحفاوة البالغة شيئًا كثيرًا، قال تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} سورة النساء 11. ورفع الله عنهم قلم التكليف ولذا حذر القرآن الكريم من الوأد في موضعين، جاءا بصيغة منفرة مهولة، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ} سورة التكوير 8-9. وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} سورة النحل 58 -59 ففي هذه الآيات يصور لنا القرآن أحوال الناس في الجاهلية تجاه الطفلة الأنثى؛ فهم مترددون بين أمرين: إما إبقاء الطفلة حيةً على مضض، أو الخيار الآخر وهو: دفنها حيةً.
ومن رحمة القرآن بالطفل أن جعل له الحق في العيش والحياة، ولم يصوّره عبئًا ثقيلًا على الأسرة والمجتمع، فنهى الآباء عن قتل أولادهم مخافة الفقر، قال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} سورة الإسراء 31
والطفل اليتيم كغيره من الأطفال أحوج أن يحصل على قدر مناسب من الحب والحنان والعطف والتوجيه والإرشاد وحفظه وحمايته من العوز المادي، كنقص الغذاء والكساء والمسكن، وقد يؤدي عدم الاهتمام به والرعاية السليمة له أن يتشرد ويتخلف، وأن يصبح جانحًا، وأمر الله تعالى برحمة اليتيم وعدم قهره قال تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} سورة الضحى 9. وأمر بعدم إزعاجه ودفعه دفعًا منفرًا قال تعالى {فذلك الذي يدع اليتيم} سورة الماعون 2. وحض على إطعامه رغبةً في إدخال المسرّة إلى قلبه، وإشعارًا بالترحيب به، قال تعالى: {يتيمًا ذا مقربة * أو مسكينًا ذا متربة} سورة البلد 15-16 وحمى مال اليتيم ونهى عن استعماله إلا في مصلحته قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} سورة الإسراء 34.
وبرزت العناية بالجانب النفسي والمعنوي بالطفل في سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته، فقد كان يمازح الصبيان ويؤاكل الأيتام ويمسح على رؤوسهم وقال أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بإصبعيه المسبحة والوسطى وقال من عال جاريتين دخل أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بإصبعيه وقال: ليس منا من لم يرحم صغيرنا, وأمر بكف الصبيان عن اللعب حين انتشار الشياطين, ونهى أن يفرق بين الأمة وولدها في البيع وقال: “من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة” رواه أحمد وصححه الحاكم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أتقبلون صبيانكم؟ فقال نعم قال لكنا والله ما نقبل فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: أو أملك أن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: خدمت النبي عليه الصلاة والسلام عشر سنين بالمدينة وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه ما قال لي فيها أف قط وما قال لي لم فعلت هذا أو ألا فعلت هذا.
وقال عليه الصلاة والسلام: أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة.
الرحمة بالعاجز والضعيف والمريض وكبير السن
من أجمل صور الرحمة هي الرحمة بمن لا قوة له والمريض والعاجز عن فعل ما يفعله غيره، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم برعاية الضعفاء وحث على التخفيف عنهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء.”
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن شابًّا كان يَقُمُّ المسجد فسأل عنه الرسول عليه الصلاة والسلام فقالوا إنه مات فقال: “أفلا كنتم آذنتموني دلوني على قبره فدلوه وصلى عليه.” رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.”
وروى البخاري وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم.”
الرحمة بعموم المؤمنين
جاء في وصف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم رحماء بينهم قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الفتح 29 فالرحمة دائرة بينهم، حالة في كل حال كانوا عليه، وهي رحمة تقتضي جمع الكلمة، والرفق بالصغير، واحترام الكبير، وجلب الخير للغير، ودفع الضر عنه وهذه الرحمة هبة ربانية، يجعلها الله في قلوب أتباع أنبيائه، كما قال
تعالى عن أتباع عيسى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} سورة الحديد 27. والمجتمع المؤمن مجتمع تتراحم فيه القلوب وتتآلف، تسري فيهم الرحمة كما يسري الدم في العروق، لتحيا وتبقى، ويوصي بعضهم بعضًا بالمرحمة قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} سورة البلد 17 فهي مرحمة ورحمة تحقق الإيمان في القلوب، وتتدثر بدثار الصبر والاحتساب.
وقد وصف رسول الله هذا المجتمع بالجسد الواحد، الذي تسري فيه الرحمة من القلب، لتتصل بكل عضو من أعضاء الجسد، وتتداعى فيه الأعضاء لمواساة صاحب الشكوى والضر والألم، قال صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” رواه مسلم في صحيحه.
الرحمة بالطيور والبهائم
إن الطيور والبهائم لا عقل لها للتمييز ولذلك نهينا عن استضعافها وتعذيبها، وحرم الإسلام حرق الحيوان والتمثيل به واتخاذه غرضا والتحريش بينها، وقد دخلت امرأة النار لأنها ربطت هرَّة ولم تطعمها ولم تتركها لتأكل بحرية من الأرض.
ومن هنا تفرَّد الإسلام وعبر تاريخه المجيد بنظرة بالغة الرُّقي للحيوان وحقوقه، حيث جعل من الإحسان للحيوان والرحمة والرفق به، عبادة تُكفِّر الخطايا وترفع الدرجات، كما أن الإضرار بالحيوان وتعذيبه وتحميله فوق طاقته، جريمة توجب غضب الله وعقابه في الآخرة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ فرخ الطائر أن يرده وقال: “من فجع هذه بولدها”، كما نهى عليه الصلاة والسلام عن التفريق بين الشاة وولدها
وفي الموطأ عن أبي هريرة مرفوعًا أن الله غفر لرجل وجد كلبا يلهث من العطش فنزل في بئر فملأ خفه ماء وأمسكه بفمه حتى رقي فسقى الكلب فغفر الله له.
وقال عليه الصلاة والسلام في فضل سقي الحيوان وإطعامه: ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة.
هذا جزء بسيط من الآثار المترتبة على الرحمة، وهناك الكثير من الآثار المترتبة على الرحمة، مما نعجز عن عده وإحصائه فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرض جُزْءاً واَحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجزْءِ يتَرَاحَمُ الخْلق حَتى ترفعَ الفرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.»
إن الرحمة تفتح أبواب الرجاء والأمل، وتبعث على صالح العمل، وتغلق أبواب الخوف واليأس، وتشعر المؤمن بالأمن والأمان، فما أحوجنا إلى الرحمة في مثل هذا الزمن الذي يواجه العالم فيه موجة عنف أتت على الأخضر واليابس، في تسارع محموم، وتزايد غير مسبوق، تغيب فيه بوادر الانفراج، وتموج فيه الأفهام والأفكار، ويكثر فيه الخصام واللجاج، يتولى زمامها فئات من الناس غيرُ ذوي أفهام، غُذُوا بسم زعاف، ويحسبونه سلسبيلا وسلامًا.